کد مطلب:58436 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:319

مقدمة التحقیق











بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله ربّ العالمین، وصلّی الله علی محمّد وعلی أهل بیته الطیّبین الطاهرین.

وبعد:

فربما كان الخلاف العقائدی فی فهم الارتباط العضوی بین استمرار الحكم الالهی فی الارض ـ بین الفرق الاسلامیة المختلفة ـ وعلله فیها، هو المحور الاَساس الذی ابتنت علیه الاطروحات المختلفة فی كتابة وتدوین التأریخ الاسلامی، ووضع لبناته الاُولی، وبالتالی ما ترتّب علیها من نتائج وحلقات تعرّضت جملة منها ـ إن لم یكن أكثرها ـ الی النقد والتجریح والرد، وبشكل حاد وقاطع.

فالاعتقاد المغلوط الذی وضع وأقام أول أركانه أتباع السقیفة والبیت الاموی من خلال مصادرتهم للحكم الالهی ودفعه قسراً عن أصحابه الشرعیین، وبالتالی محاولتهم ـ وبترویج من بطانتهم والمقتاتین من فتات موائدهم ـ تركیز مفهومهم المنحرف باقامة بنیان فاسد قبالة البنیان المقدَّس الذی أقامه

[صفحه 6]

رسول الله صلّی الله علیه وآله بأمر من الله تعالی، كلّ ذلك كان هو المدخل الكبیر الذی قامت علیه الاطروحة الهادفة إلی تجرید أهل البیت علیهم السلام من درهم الكبیر، وقطبیتهم المركوزة بأمر السماء، والذاهبة ـ أی تلك الاطروحة ـ ابتداءً الی القول بان استمرار هذا الحكم الالهی فی الاَرض مرتبط بوجود واستمرار الاُمّة فحسب، متجاهلة عمداً الدلائل المقطوع بها، والقائلة بأنحیاة الأُمة ودیمومتها، وبالتی استقامة مناهجها وصواب مسیرتها، مرتبط بشكل عضوی ومحسوم بالوجود المقدّس لاهل بیت النبوة علیهم السلام وقائم بقیامهم[1] .

ومن ثم دأبَ أصحاب تلك النظریة وسعوا سعیهم لتضییق هذا المفهوم وحصره فی اُضیق حدوده المنظورة لیدور فی فلك الحكّام والملوك، وبالتالی كلّ ما یرتبط بهم، ویتصل بسیاساتهم، وكأنهم قد أمسوا المراكز الاساسیة التی تنطلق من خلالها حقائق الوجود، ومناهجه الكبری، فأغرق كاتبو ذلك التأریخ ما سطّروه من صفحات كتبهم التأریخیة بتفاصیل ودقائق واسفافات سقیمة لحیاة هؤلاء الحكّام والسلاطین، متجاوزین أوسع وأعظم الحلقات الكبری التی تشكّل قطب وجود الاُمم، ومركز دیموتها، بالدلیلین العقلی والنقلی.

[صفحه 7]

نعم، فاذا أعتبرنا بان كتابه التأریخ واحدة من أجلّ العلوم والمعارف الانسانیة التی تعمل علی مد الجسور والصلات الحیاتیة ـ بمفرداتها المختلفة ـ والفكریة، وربطها بالحاضر المعاش، وحیث ینبغی ان تكون صورة منعكسة صادقة عن واقع الاحداث الدائرة حول مراكزها الحقیقیة، وأقطابها الحقیقیة.

فان الدور الذی لعبته دوائر القرار السیاسی الحاكمة إبان ابتناء اللبنات الاولی لقیام هذا البنیان الكبیر كان له الاثر الكبیر فی ترسیخ جملة من المفاهیم والقواعد المغلوطة التی أمست ـ بترویج وتكركیس واقرار تلك المراكز لها، والفراغ الذی أوجدته سیاسة اولئك الحكام وأتباعهم ـ العیون الكبری، والنوافذ الواسعة المشرعة علی الدهور السالفة، والقرون الماضیة، والتی لا یسع الباحث إلاّ الاغتراف من بحرها، والمخر فی عبابها، واقتحام لججها.

ولا غرو فی ذلك، فان من یستقریء السنوات التی عاصرتها بدایات قیام المناهج التقلیدیة لكتابة التأریخ ـ بشقیها المتعلّقین بما یسمی بكتب المغازی من جانب، والتاریخ العام من جانب آخر[2] ـ یجدها قد ولدت بین احضان واحتواءات السیاسة الامویة أو العبّاسیة، وبالتالی اتسامها بالمحاذرة الیقظة المتوجّسة من تجاوز الخطوط الحمراء التی كرّستها سیاسة تلك الحكومتین، وما یترتب علی ذلك من تأثر ـ موافقاً كان أو مغلوباً علی

[صفحه 8]

أمره ـ لا مناص من الجزم به، وقع به رواة وقنوات النقل بین حلقات الزمن الغابر من جهة، وبین الصفحات التی تسطّرها أیدی اولئك الكتّاب الخاضعین للموثّرین السابقین من جهة اخری، فكان ما نراه من مؤلّفات وأسفار عجزت من أن تكون صادقة النقل، وأمینة السرد، ودقیقة الاستشراف.

نعم، فان من یتأمّل فی حقیقة مناهج الرواد الاوائل، والحقبة الزمنیة التی عاصروها والمتمخّضة عن المتبنیات الفكریة التی نادت بها السلطة الحاكمة، والتی وافقت أو أقسرت اولئك الرواد علی تتبع خطواتها، وتجنب حدودها، كل ذلك یظهر بجلاء صواب وحقیقة ما ذهبنا الیه من تركیز المنهج الخاطیء فی صیاغة الحلقات الاساسیة التی ارتكز علیها البناء المعروف للتأریخ الاسلامی بروافده المتكاثرة المتفرعة عنه.

فاذا عرفنا بان المدینة المنورة كانت هی الموطن الاساس الذی اختص بالتألیف فی المغازی قبل القرن الثانی للهجرة، فان جیلاً من المؤلّفین والمصنّفین المشخّصین قد تصدوا لوضع الحجر الاساس فی كتابة التأریخ الاسلامی بالكیفیة التی أشرنا الیها، منهم:

عروة بن الزبیر المتوفّی عام 93 هـ[3] .

[صفحه 9]

وابان بن عثمان بن عفان المتوفی عام 105 هـ.[4] .

ومحمّد بن مسلم، المعروف بابن شهاب الزهری المتوفی عام 124 هـ[5] ، والذی عُرف عنه اسلوب المقارنة بین الاحادیث المختلفة لغرض

[صفحه 10]

ادماجها فی حدیث واحد، حیث فتح الباب علی مصراعیه لتسرّب الاَخبار التی یدسّها غیر الموثوق بهم من المحدِّثین.

ومحمّد بن اسحقاق بن یسار المتوفی عام 151 هـ[6] وغیرهم[7] .

نعم، ان هذه البدایات المبكرة فی تركیز مبدأ الاعراض عن الحقائق الثابتة والكبری التی أوصی بها المشرّع المقدّس، والتعامل معه تعاملاً یتراوح بین الاِعراض تارة، والتعامل المشوب بالحذر والتتوجّس من الموقف السلطوی والعام المتأثر به تارة اُخری[8] كوّنت بالتالی

[صفحه 11]

مدخلاً كبیراً للایذان بفتح الاَبواب مشرعة أمام قیام المدارس التی تنتهج المبدأ السائد والمعروف فی كتابة التأریخ بالشكل الذی جعله معرضاً للاَخذ والرد والنقاش، ولم یوفّق بالتالی فی اداء المهمة المقدّسة المتعلّقة به، والمناطة بكتّابه.

ولا مناص من القول بان هذا المنهج ـ القائل بأنّ استمرار الحكم

[صفحه 12]

الالهی فی الاَرض مرتبط بوجود الاُمة واستمرارها ـ قد تضیّق بشكل واضح، وبدت ملامح ذلك التضییق تظهر بشكل جلی بعد انقضاء الحقبة الاُولی التی أشرنا الیها ـ والتی جهدت فی تجاوز الكثیر من الحقائق والاشارات المتعرّضة لایضاح مركزیة وقطبیة أهل البیت علیهم السلام فی الوجود الفكری والعقائدی الانسانی ـ وحیث یری الباحث والمستقریء مناهجاً، وان تفاوتت فی بعض مفرداتها، إلاّ انها تتوافق اجمالاً علی تجسید هذا المنهج غیر السلیم فی كتابة التأریخ، ودراسة أبعاده المختلفة.

ولا غرابة فی ذلك، إذ ان المؤرّخین الذین مثّلوا الحقبة التالیة أو اللاحقة فی كتابة التأریخ قد اعتمدوا كثیراً فی نصوصهم المرویة علی ما وصلهم من كتب السیر والمغازی التی أشرنا الیها آنفاً، وأضافوا الیها ما یتوافق والمنهج العام الذی أمسی راسخاً ومتحكّماً فی البنیان التأریخی الاسلامی، لا سیما وان تلاحق الحكومات المعارضة لمنهج أهل البیت علیهم السلام هو الحاكم فی غالب العصور التی شهدت ظهور تلك الكتابات ونشأتها، وذلك مما كرّس بشكل أكبر تواصل انحدار عجلات التأریخ كثیراً نحو مواطن الخطأ، ومناهله المضطربة، فكان ما نراه من تهافت سقیم یدور فی حلقات هامشیة تطنب فی سرد حیاة الملوك والسلاطین، ولیالی مجونهم وصخبهم، وباعتماد الخطوط العامّة التی سلف أن أقامت مرتكزاتها الاَساسیة سیاسة الامویین السیئة الذكر، والتی تحدّثنا عن بعض مفرداتها لاحقاً.

فاذا كان محمّد بن جریر الطبری المتوفی عام 310 هـ هو صاحب الكتاب التأریخی الذی أمسی المرجع الشهیر الذی استقت منه كتب التأریخ اللاحقة موادها وتراجمها المتعددة المختلفة، فانّا نراه كثیراً ما یعتمد علی

[صفحه 13]

المصادر السالفة فی كتابته لتأریخه، مع اعتماده علی جملة مما نقله عن شیوخه ورواة أخباره، ودون فحص أو تمحیص فی صحة الروایات وأسانیدها، مع وقوعه الواضح تحت تأثیر المنهج السالف الذی أشرنا الیه، حیث یبدو ذلك جلیّاً وواضحاً من خلال استقراء بعض المواضیع الحسّاسة والهامة فی التأریخ الاسلامی، والتی یمثّل بعضها الحجر الاَساس فی الخلاف الواقع بین أهل البیت علیهم السلام من جانب، ومخالفیهم ـ وعلی رأسهم الامویون ـ من جانب آخر، كما فی أحداث السقیفة، وما ترتّب علیها من أحداث ونتائج، حیث نراه قد أعرض عن تقصّی جوانب الاَحداث، مكتفیاً بروایة سیف بن عمیرة الذی اتفق أصحاب التراجم والسیر علی كذبه وتدلیسه وفساده[9] مع تجاوزه عن ذكر الكثیر من مفاسد الامویین، وأفعالهم النكراء.

ولمّا تكاملت الصورة باعتبار ان هذا التأریخ یمثل أوسع وأشمل التواریخ لما ذكر من انه قد استطاع ان یجمع بین دفتیه ما وصل الیه من الاَخبار المتفرّقة المودعة فی الكتب المختلفة، حدیثیة كانت أم تفسیریة،

[صفحه 14]

بالاضافة الی كتب اللغة والاَدب والسیر وغیرها، ونسّق فیما بینها تنسیقاً لطیفاً، وعرضها عرضاً جمیلاً، وباسلوب المحدّثین كما هو مشهور عنه[10] .

فانه أمسی المرجع الذی اعتمدت علی نقولاته وتراجمه معظم المراجع والكتب التی تلته، كما فعل ابن الاثیر، وابن خلدون، وابن مسكویه، والمسعودی، وغیرهم.

وهكذا نری بوضوح جلی الامتداد المتصاعد فی تركیز القاعدة المفتعلة فی بناء هیكلیة كتابة التأریخ الاسلامی، وضمن الاطر التی أقامتها السیاسات السالفة نئیاً به عن موطنه الحقیقیة، ومصادره السلیمة، فبدا ـ رغم سعته ـ قاصراً عن ترجمة الدور المناط به، والمتوقع منه باعتماد

[صفحه 15]

الوصایا المتكررة للشارع المقدَّس، وتأكیداته المتكررة، والمُقرَّة عقلاً ومنطقاً.

ومن هنا فقد كان لابد من أن تُترجم هذه الوصایا والتأكیدات بنتاجات تأریخیة تقف ـ رغم شدة التیار المعاكس لها ـ كشواخص حیة وصادقة فی رسم الصورة الحقیقیة التی ینبغی ان یعتمدها المؤرخون فی كتابتهم لصفحات التأریخ، وترجمتهم لوقائعه المختلفة.

ولعل من یستقرئ ـ اجمالاً ـ الاَزمنة التی یفترض لهذه الكتابات أن تعاصرها فانه یجدها فی موقف حساس وخطیر لا تحسد علیه، طالما أن الخط العام الحاكم ـ سیاسیاً كان أم تقلیداً فرضه حكم تقادم الاَیام والسنین ـ كان یقف الی حد ما بشكل مغایر لتوجهات ومتبنیات هذا المنهج السلیم والصادق فی كیفیة دراسة التأریخ، وطبیعة مرتكزاته الاَساسیة، وهذه كانت هی محنة مؤلّفات الشیعة الامامیة التأریخیة، ومعوقها الكبیر، وهو ما جعلها تبدو للناظر أول وهلة محدودة النتاجات، بسیطة الاستشراف والاحاطة بحلقات التأریخ المختلفة.

بید ان اخضاع هذا التصور المتعجّل للواقع المذكور من جانب، ومن جانبٍ دراسة مجمل ما كتبه الشیعة الامامیة فی هذا المیدان المقدّس والكبیر، وكیفیة تعامل مؤلّفوها مع وقائع الاَحداث، وترابطها الموضوعی مع الشریعة الاسلامیة المباركة، كلّ ذلك یدفع الباحث قسراً للاقرار بخلاف ما ذهب الیه، والی اكبار واجلال تلك الجهود التی ترجمت ـ فی رفد حركة البناء التأریخی ـ نوایاها الصادقة من خلال جملة من المؤلّفات التأریخیة المختلفة، والتی یُعد الكتاب الماثل بین یدی القاریء الكریم نموذجاً واحداً منها، وأثراً مباركاً من آثارها وثمارها الطیّبة، حیث أبدع یراع مؤلّفة أمین الاسلام أبی علی الفضل بن الحسن الطبرسی رحمه الله فی

[صفحه 16]

كتابته وجمعه وتألیفه، وستنعرض لایضاح ذلك لاحقاً فی مطاوی الصفحات اللاحقة باذن الله تعالی.



صفحه 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16.





  1. لا غرو فی ذلك، فان الكثیر من الدلائل والشواهد القاطعة التی تعرضت لایضاحها كتب الاصحاب تدل علی حقیقة هذا الامر دلالة لا یسع أحد أنكارها أو مناقشتها، فهم علیهم السلام سفینة حطة التی من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وهم الامان لاهل الارض، وهم النجوم التی یضل دون الاهتداء بها، والاسترشاد بنورها، بل وهم الذین أمر رسول الله صلّی الله علیه وآله امته بان تنزلهم منزلة الرأس من الجسد، وغیر ذلك من الاحادیث والاخبار المنبئة بان مركز الامة وقطبها هم أهل بیت النبوة علیهم السلام لا غیر، فتأمل.
  2. أردنا هنا بالتأریخ العام الشكل الاوسع فی كتابة التأریخ الاسلامی، لا ما یعرف عند المؤرّخین من انه ما یشمل تأریخ العالم بأسره، وحیث یُعد أوّل من كتب فیه الیعقوبی فی منتصف القرن الثالث الهجری، ثم تلاه ابن جریر الطبری المتوفی عام 310هـ.
  3. لا یخفی علی أحد موقف عروة من أهل البیت علیهم السلام توافقاً مع موقف أبیه وأخیه عبدلله، حتی انه نُقل عنه مبادرته للخروج مع أصحاب الجمل لقتال علی علیه السلام ولكنه مُنع من ذلك لصغرسنه.

    بل وكان أیضاً من أشد المؤیِّدین لخالته عائشة، والمتحمِّسین لمواقفها من علی وأهل بیته علیهم السلام من جانب، ومن المنحازین إلی جانب الامومین فی اُمورهم وأفعالهم من جانب آخر، وحتّی انه قد نُقل عنه موقفه المؤیِّد لعبدالملك بن مروان فی حربه مع أخیه عبدالله، كما یذكر ذلك المسعودی فی مروجه (3: 113) حیث یقول: وكان عروة بن الزبیر علی رأی عمِّه عبدالملك بن مروان، وكانت كتب عبد الملك بن مروان إلی الحجاج متصلة یأمره بتعاهد عروة، وأن لا یسوءه فی نفسه وماله، فخرج عروة إلی الحجاج، ورجع إلی أخیه فقال له: هذا خالد بن عبدالله بن خالد بن اُسید، وعمرو بن عثمان بن عفان یعطیانك أمان عبدالملك علی ما أحدثت أنت ومن معك!!.

    وللمرء أن یتصور انصیاع هذا الرجل لعبدالملك وحكومته حتی فی مخالفته لاخیه واتهامه بالاحداث، مع ما یُعرف عن عبدالملك من فساد وانحراف وحدة طبع ومیل إلی الدماء، كیف انه لا یكون منقاداً للسیاسة الامویة فی تحریف التأریخ وكتم الكثیر من حقائقه، وبالذات منها ما كان متعلِّقاً بأهل بیت العصمة علیهم السلام أصحاب الحق الذی انتزعه منهم الامومین.

  4. هو ابن الخلیفة عثمان، وموقف أبیه المؤید لبنی اُمیة أجلی من الشمس فی رابعة النهار، ولا یحتاج إلی مزید شرح، وكثیر بیان، بل تكفی مقولته المشهورة التی أدلی بها فی محضر من الصحابة والتی رواها أحمد بن حنبل فی مسنده (1: 62): لو ان بیدی مفاتیح الجنة لاَعطیتها بنی امیة حتی یدخلوا من عند آخرهم.

    ومن الطبیعی كان لابد ان یترك تعاطف أبیه المفرط مع الامویین، بالاضافة الی الموقف المقصود والمبالغ به من قبل أركان هذه الاسرة باتهام علی علیه السلام وتحمیله مسؤولیة قتل عثمان، واتخاذها ذرعة للطعن فی خلافته، أثراً بیّناً فی حیاة وتوجّهات أبان، لا سیما وقد عمل والیاً علی المدینة لعبدالملك بن مروان، فكان لابد ان یكون منهجه موافقاً للمنهج الذی سار علیه الاَمویون فی سیاستهم العامة المنحرفة عن أهل البیت علیهم السلام.

  5. عرف عن الزهری اتصاله ومیله الشدید للامویون، وحیث كان صاحب شرطتهم، ومن الملتصقین بهم حاكماً بعد حاكم، وممن لم یبخل علیه الامویون بالعطاء والرعایة طیلة حیاته. وللمرء ان یتصور ماذا یعنی رضا سدنة وحكام هذه الدولة عن مؤرخ یسطّر بقلمه الخطوط العامة للسیرة والتی ینبغی ان تتوافق ومناهجهم وسیاستهم المتقدم ذكرها.

    واذا كان خالد بن یزید القسری المعاصر للزهری یخاطبه ـ بعد ان طلب منه كتابة السیرة، وقول الزهری له: انه یمر بی الشیء من سیر علی بن أبی طالب، فأذكره؟ ـ بقوله: لا، الا ان تراه فی قعر الجحیم!! (انظر: 22: 21)، فان خالد هذا كان متهماً باعتماد سیاسة اللین والرفق مع الشیعة، وبسبب ذلك عزل عن ولایة العراق، وولی بدلاً عنه یوسف الثقفی المعروف بحقده وبغضه وعدائه لهم، فیا تری ما عمد الیه الآخرون المتفانون فی خدمة الدولة الامویة وحكّامها وسیاساتها المعارضة لاهل البیت علیهم السلام ومنها تحریف الحقائق، ودس ما یوافق المنهج المخالف لارادة السماء ومشیئتها المقدَّسة؟!.

  6. رغم ان ابن اسحاق عمد فی كتابه هذا الی التوسع والتفصیل خلافاً عما كان علیه السابقون من اعتماد تأریخ النبی صلّی الله علیه وآله فحسب، بل تجاوز ذلك الی تدوین تأریخ النبوة ایضاً، وما یتصل بها، وحتی وفاة رسول الله صلّی الله علیه وآله، ثم انه عمد أیضاً الی التعرض بشكل واضح وبیّن الی سیرة الامام علی علیه السلام، إلاّ انه تعرّض أولاً للاتهام بكونه شیعیاً، ومن ثم تعرّض مؤلّفه هذا للضیاع، ثم ظهروه بعد ذلك بشكل مختصر ومشوه قام بجمعه عبدالملك بن هشام المتوفی 218 هـ، فكان بالتالی موافقاً للمنهج الذی أشرنا الیه آنفاً.
  7. لیس ثمة شك بان هناك البعض ممّن حاول أن یكتب ولو بعض ما یصح لدیه من السیرة النبویة وما یتصل بها، إلاّ ان ذلك لم یكن بالقدر المؤثّر فی وقف التیار العام المندفع بقوة والذی تسیّره سیاط الحكّام وأكیاس دارهم، فبقی أثرهم محدوداً، وكتاباتهم متعثرة، لا سیما والتلویح بتهمة التشیع وما یترتب علیها كانت تقف أمامهم بالمرصاد، كحال أبی معشر وابن سعید الاموی وغیرهما.
  8. من یتأمّل المنهج الذی سارت علیه الدولة الامویة ـ منذ نزو معاویة بن هند علی سدة الحكم وحتی طلیلة تلاحق سلسلة الحكّام الامویین ـ یجد الكثیر من الشواهد والحقائق الدالة علی حقیقة هذا التوجه الخبیث الرامی الی دفع حالة الاستقطاب الكبری لاَهل البیت علیهم السلام بواسطة سیاسة حرف أنظار التأریخ وعیونه عن اعتمادهم كمراكز وأقطاب مقدّسة ـ یُدرس التأریخ وتقام صروحه من خلال آفاقها الواسعة، ومعطیاتها الكبری التی أقامها لهم الشارع المقدّس ـ والمرتكزة فی أوضح أبوابها علی اسلوب الارهاب والقتل والتشرید، وذلك لیس بخاف علی أحد

    نعم، فاذا كان مصیر حجر بن عدی وأصحابه، ورشید الهجری، وعبدالله بن یقطر، ومیثم التمّار ـ الذی أظهر اسلوب قتله حقیقة السیاسة الامویة التی أشرنا الیها بأوضح صورها، وحیث صلب علی نخلة، ثم الجم لما لم یكف عن التحدّث عن فضل أهل البیت علیهم السلام ومنزلتهم العظیمة، وما یعنیه هذا من تركیز حاد لعیون التأریخ علیهم، وبالتالی ابتناء المنهج الدی تخشاه الدولة الامویة، ومن تبعهم من العبّاسیین ومن لف لفهم ـ وغیرهم القتل الذریع بایدی أزلام الدولة الامویة، ومنفذی سیاستها الوسخة، فان زعیم هذه الدولة الفاسدة كان قد أقام لاتباعه اُسس هذا النظام ومناهجه من خلال ما عمّمه فی كتابه الشهیر الی عمّاله والذی ینص علی أن: برئت الذمة ممّن روی شیئاً من فضل أبی تراب وأهل بیته.

    قال ابن أبی الحدید المعتزلی بعد اشارته الی هذا الكتاب: فقامت الخطباء فی كلّ كورة، وعلی كلّ منبر یلعنون علیاً!! ویبرءون منه!! ویقعون فیه وفی أهل بیته...!!

    وأضاف: وكتب معاویة الی عمّاله أن لا یجیزوا لاَحد من شیعة علی وأهل بیته شهادة. وأن من قامت علیه البیّنة أنه یحبّ علیاً فان اسمه یُمحی من الدیوان، ویُسقط عطاؤه ورزقه، وأمّا من یُتهم بمولاة أهل هذا البیت فانه یُنكّل به، وتُهدم داره...

    وللقاریء الكریم أن یتأمل فی ما تعنیه سیاسة تكمیم الاَفواه هذه، وما تشكّله من خطورة فی حرف التأریخ، وصرفه عن الحقائق الكبری.

  9. ذكر ابن حجر فی ترجمته ـ سیف بن عمیرة ـ له: قال ابن معین: ضعیف الحدیث، وقال مرة: فلیس خیر منه، وقال أبو حاتم: متروك الحدیث، وقال أبو داود: لیس بشیء، وقال النسائی والدار قطنی: ضعف، وقال ابن عدی: بعض أحادیثه مشهورة وعامتها منكرة، وقال ابن حبان: یروی الموضوعات عن الاثبات.

    وقال أیضاً: وقالوا: انه یضع الحدیث، واتهم بالزندقة، وقال البرقانی: متروك، وقال الحاكم: اتهم بالزندقة، وهو فی الروایة ساقط.

    والملفت للنظر اعتماد الطبری علی هذا الراوی المطعون بوثاقته وفی دینه علی أدق الاحداث التی وأعقدها فی التأریخ الاسلامی، وبشكل یدفع فیه القاریء الی الامتعاض والاستهجان عند الوهلة الاولی، ولكنه عند اخضاعه الی المقیاس السالف الذی أشرنا الیه یجده متوافقاً معه بشكل واضح وبیّن.

  10. ان ما ذهب الیه الطبری من انه اعتمد اسلوب المحدثین فی ایراده للروایات والاخبار مع اسانیدها، ودون أی بحث أو تمحیص جعله فی موضع نقد وتشكیك من قبل الباحثین والدارسین، لان ایراد هذه الاحداث بهذه الطریقة المغلوطة یثیر فی الاذهان سریانها علی عموم الكتاب ومواده، ولانها خلاف ما ینبغی ان یكون علیه عمل المؤرخ البصیر الذی یتصدی لتألیف مرجع یتعرض فیه الی أهم حلقات التأریخ الاسلامی، وتفرعاتها المختلفة.

    واذ تنصل الطبری من تبعة ما أورده من أخبار، وحمل ناقلیها مسؤولیة ذلك، فانه قد أتی بأسوأ من فعله الاول، اذ لا یسع عموم القراء ادراك صواب الاخبار من عدمه، وضعف الراوی من وثاقته، وكان الاولی به ان یتصدی هو لتحقیق ذلك، طالما وقد قیل عنه انه كان ممعناً فی التثقیف والتدقیق، ومستجلیاً للغوامض، ومتبحراً فی الكثیر من العلوم والمذاهب، حتی قیل انه أفتی الناس ببغداد عشر سنین...فاین هذا من ذاك؟!

    بل والاكنی من ذلك ان یأتی من ینقل الكثیر من الاخبار ـ صحیحها وموضوعها ـ عن هذا المصدر دون تعرض منه لرواتها وناقلیها، مكتفیاً بانه نقلها عن الطبری فحسب، فتضاف الروایة الی الطبری لا الی الراوی، ویؤخذ بها علی انها من مصدر معتبر موثوق، لا ان روایها ـ مثلاً ـ متروك مطعون بروایته كما فی حال سیف بن عمیرة وغیره.